التكوين بين السفر والمنتدي والإبراهيمية
التكوين بين السفر والمنتدى والإبراهيمية
بقلم:
أ.د هبة جمال الدين
رئيس قسم الدراسات المستقبلية، بمعهد التخطيط القومي، وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية
ثار جدل كبير بشأن اعلان إنشاء منتدى التكوين الذي يضم بعض الشخصيات العامة المصرية والعربية واتهمه البعض بالترويج للألحاد وتشويه الدين الإسلامي الحنيف، في حين أدعي رموزه أن هدفهم نقد الثوابت وتشجيع المراجعات النقدية والتحفيز على طرح الأسئلة حول المسلمات الفكرية لتجديد الدين الإسلامي الحنيف كما نشر على موقع المنتدى.
فأياً من وجهتي النظر صحيحة أم أن هناك رؤية أخرى. وما دلالة أن يكون انطلاق اعمال المؤتمر السنوي الأول لمنتدي “تكوين الفكر العربي” تحت عنوان خمسون عاما على رحيل طه حسين: أين نحن من التجديد اليوم؟”، ولماذا أثار أحد الرموز الفكرية بمجلس الأمناء سؤال لأحد أعضاء المنتدي “هل أنت أفضل من طه حسين؟” وما دلالة إجابته بأنه أفضل منه هل مزحة كما ذكر؟.
وإذا أنتقلنا من الجدل لطرح عدد من التساؤلات:
– لماذا سمي المنتدى على أسم سفر التكوين في العهد الجديد؟
– هل الألحاد هو المأل لنتيجة أعمال المنتدى؟ أم أن هناك مسار أخر يقود إليه؟
– ما هو التالي بعد التكوين هل الخروج على نهج سفر الخروج؟
– لماذا يتم الآن في هذا التوقيت الإعلان عن المنتدى وأعماله؟
– هل حرب غزة لها علاقة بمثل هذا النهج الفكري وتلك الكيانات المؤسسية؟
– هل ظهورها في هذا التوقيت أحد مداخل الترتيب الإقليمي الجديد؟
– ما علاقة صفقة القرن واتفاقات التطبيع الإبراهيمي بتلك الجهود وغيرها؟
– هل هو مدخل لبناء عقلية أم هوية جديدة للشعب العربي والإسلامي؟
– هل تكوين الفكر العربي يكون بإقصاء أم بدمج إسرائيل أم أن إسرائيل ليست على أجندة الفكر العربي؟
– هل الصوفية (الروحية العالمية أو الصهيونية) أحد تقاطعات ومداخل تحرير الفكر العربي عبر التكوين؟
تساؤلات كثيرة قد لا نملك الإجابة على بعضها ولكن سنحاول نسج الخيوط ورسم الصورة الكلية:
إن الحرب على غزة جاءت لتزيح الستار عن ترتيب إقليمي جديد بالمنطقة ما أسماه البعض بسايكس بيكو الجديد كمركز American Enterprise Institute، ولكني سأصفه كما وصفه كوشنر مستشار وصهر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بصفقة القرن الموجهة للشرق الأوسط بهدف إزالة الحدود السياسية. وجاءت في ضوء عدد من المستجدات: اتفاقات إبراهام والسعي الحثيث أمريكيا وإسرائيليا لاستكمال اتفاقات التطبيع مع الكيان الصهيوني والدول العربية، ولكن تحت مسمى الإبراهيمية أو “اتفاقات إبراهام”.
وقد يرى البعض أن ما حدث أبعد حلم إسرائيل من استكمال اتفاقات التطبيع الإبراهيمي، وهنا نؤكد أن ما يحدث في غزة فرصة إسرائيلية لم تكن لترى أفضل منها، للقضاء على الشعب الفلسطيني المناضل المقاوم الثابت على الأرض، صاحب الهوية العربية والإسلامية والمسيحية التي لم ينجح الاحتلال لطمسها على مدار خمسة وسبعين عاما من القتل وسفك الدماء. لتمهيد الطريق لإشاعة الرعب في النفوس لتعود صورة إسرائيل في القلوب “بالجيش الذي لا يقهر” والبطش والقتل لمن لا ينصاع ويخضع”؛ بمعني آخر “سلام الاستعلاء” إن جاز وصفه بالسلام. ليعلم سكان وحكومات المنطقة أن السلام الإبراهيمي أمر واجب النفاذ. الأمر الذي بدا الاستعداد له عبر ضرب القنصلية الإيرانية لتفعيل محور السنتكوم “CENTCOM” القوات المركزية الأمريكية للدفاع عن إسرائيل وإعادة التأكيد على أن أمن إسرائيل واجب على دول المنطقة. وأن السلام غير مرهون بالقضية الفلسطينية وإنما بالدفاع عن إسرائيل ضد أية مخاطر خارجية حتى وإن كانت الجاني أو الفاعل.
وقد يتسأل البعض وما علاقة ذلك بالتكوين ومنتدى تحرير العقل من براثن الجمود كما يدعي أنصاره.
هنا من المهم الانتباه أن ما حدث مع الفلسطينيين لا يمكن أن يتم بنفس النهج مع كافة شعوب المنطقة؛ فالكثافة العددية أكبر، هم شعوب لدول لها جيوش نظامية خلافا لوضع فلسطين كدولة محتلة ممنوع عليها امتلاك قوات نظامية للدفاع عن نفسها. علاوة على الفارق في الكثافة العددية بين 2 مليون لمواطني غزة وملايين من الشعوب العربية والإسلامية. يضاف إلى أن حتى مع الاثنين مليون انتفض العالم الحر ممثلا في الجامعات والنقابات والمظاهرات والأحزاب، بل وظهرت دول اتهمت إسرائيل بالإبادة العرقية كجنوب أفريقيا ورفعت دعاوي ضدها في لاهاي. من ثم لا بد أن نعي أن إسرائيل لن تخوض حرب طويلة المدي تجاه سكان المنطقة وإلا ستكون الخاسر الأول. وهنا يأتي المخطط.
فقبول إسرائيل من الكتلة البشرية العربية الضخمة، لن يأتي إلا عبر هوية إحلاليه تحل محل ثوابت ومرتكزات الهوية الراسخة للشعوب المتدينة كما طرحت جامعة هارفارد عام 2004 في وثيقة إنشاء مسار إبراهام بالمنطقة، على أن تتسم تلك الهوية بالإيمان بمفاهيم جديدة كالأسرة الإبراهيمية والمشترك الديني أو البعد عن الدين في إطار بوتقة الصهر للمسار المفتوح الجامع لكافة الأطياف الفكرية المؤمنة وغير المؤمنة حتى وإن كانت على الألحاد طريقا.
للقبول بمشترك جديد يكون له صفة القدسية بعد نزع القدسية عن المقدس سواء المقدسات أو الكتب السماوية وفي مقدمتها الإسلام “القرآن والسنة”.
وذلك لاعتناق الدين الإبراهيمي الجديد ولن يتأتى ذلك إلا بالتشكيك في ثوابت وأصول الدين من شريعة وسنة وتشويه لسير الأنبياء والرسل والصالحين، حتى وإن كانوا يتحدثون عن الأدباء والمثقفين أمثال طه حسين الذي وصفوا أنفسهم بالتميز والتفرد عنه، حتى وإن جاء الأمر على سبيل المزاح، ولكن المعني قد وصل “ضرب وتشويه وتقليل قيمة الرموز” ففي عالم ما بعد الحقيقة تصبح الثوابت هشة متطايرة كالرياح.
ومن أهم أدوات المخطط الإبراهيمي الجديد ما يسمى بالقادة الروحيين من رجال دين، وساسة، ومفكرين، وإعلاميين، وممثلين ليجسدوا الهوة ويحققوا الهدف المنشود وهو السلام الديني العالمي عبر الأخوة الإنسانية مع الصهاينة، وكل ما هو مختلف فكريا ودينيا وعقائديا ولن يتأتى ذلك إلا بتفسير المعاني السرية الباطنية في النص الديني وتحطيم ركائزها وثوابتها بالطريقة الإبهار وادعاء الثقافة والتفكير النقدي والتجرأ على السنة والنصوص الدينية الراسخة. لبناء هوية إحلالية لشعوب المنطقة تقبل بالانصياع والانقياد تحت مظلة الترتيب الإبراهيمي الفيدرالي الجديد الذي سيبدأ بغزة وسيزحف نحو دول المنطقة ككل حتى للدول العربية المروجة له أيضا فلا عاصم لها.
وإذا نظرنا لسفر التكوين الذي اشتق اسمه ليتشابه مع منتدى التكوين:
فلن أوجه أية اتهامات، ولكن سأطرح بعض المعلومات حول سفر التكوين وعلاقته بالإبراهيمية قياسا واشتقاقاً.
فسفر التكوين يقسم لحلقتين أساسيتين الأولي تتناول الحديث عن أصل الكون والإنسان، والثانية تتناول أصل الأباء وأصل ما يسمى بـ “شعب إسرائيل”، ويتضمن سفر التكوين الآتي:
“في الحلقة الرابعة يبدأ الله لتحقيق وحدة وتجميع البشر، فيخلّص نوحًا من الطوفان، وأقام عهدًا معه ومن خلاله عبر ذريته مع البشرية كلها، واختار منها إبراهيم ليبارك بواسطتها جميع الأمم؛ وهنا تبدأ الحلقة الثانية الكبرى التي تشرح تكوين شعب إسرائيل، وهي تتألف أيضًا من أربعة حلقات صغرى، الأولى هي إبراهيم، الذي انتقل من مكان إلى مكان، ومن مقدس إلى مقدس، ونال بركة الله، وولد له إسماعيل واسحق، وتختم حلقة إبراهيم بزواج اسحق من إحدى قريباته في بلاد آرام، ومع حلقة صغيرة تالية عن اسحق وريث إبراهيم، تظهر الحلقة الثالثة عن يعقوب، جد الأسباط والملقب «إسرائيل» فمنح الشعب اسمه؛ أما الحلقة الرابعة والأخيرة فهي يوسف في مصر، فيستقبل إخوته وينقذهم من المجاعة، ولن يلبث يوسف أن يموت هو أيضًا تاركًا ذويه في أرضٍ سوف يذوقون فيها العبودية، وسيكون موضوع تحريرهم وإعادتهم إلى «أرض الآباء» موضوع السفر التالي أي سفر الخروج”
أي أن سفر التكوين يدور حول رسول الله إبراهيم والوعد بالأرض لنسل أسحق كمتفق عليه في العهد القديم ومختلف عليه في الإسلام، مرتبطة بإسرائيل التأصيل لجذورهم، والحديث عن عودتهم لأرض الأباء مصر، فهل هي مصادفة أن يكون منتدى التكوين بمصر رغم أنه يضم جنسيات عربية أخرى خلافاً للمصريين. أم أنه قد يحمل هذا القياس. أو ربما تم الاختيار مصادفة وأتمنى أن تكن مصادفة.
هنا علينا الانتباه والتساؤل هل أن وضع إسرائيل هذه المرة سيكون ضمن المراجعات الفكرية لقبولها خاصة بعد المجازر الوحشية عبر تأويل بواطن النصوص؟، وعلينا أن نعي أن الضجة حول المنتدى في هذا التوقيت تساعد في صرف اهتمامنا بغزة وقرب قيام الأفعى الصهيونية بتصفية القضية.
وهنا قد أكون ما طرحته مجرد تشابه أو ربط نظري لذا أدعو الرموز الفكرية بالمنتدى بإبداء أراءهم حول إسرائيل وما تقوم به من مجازر وإبادة، وترك شماعة حماس الآن، فنحن نحتاج آرائكم السديدة حول الموقف من الكيان الصهيوني وعلاقة التجديد الفكري العربي وتكوينه بمكانة إسرائيل فهل هي عدو أم ترون بمراجعة ذلك في ضوء تحرير العقل العربي وإعادة تكوينه؟ وما رأي منتداكم الكريم بالتطبيع الإبراهيمي والسلام الإبراهيمي بلا مقابل؟
فأرجو أن تتركوا الإسلام وتتفرغوا للتنظير حول وضع إسرائيل في الفكر والعقلية العربية بشكل معلن بعد مجازرها الدموية التي لن يمحوها التاريخ.
وأخيراً، أثمن قرار فضيلة الأمام الأكبر بتأسيس موقع بيان للرد على منتجات تكوين، وأتمني على مؤسسات الدولة أن تفرد مساحة إعلامية لبيان لتصل ردودهم للعامة كافة، أتمنى عدم إفساح المجال لنخب المنتدى بالحديث بالقنوات والفضائيات المصرية، فيكفيهم ما لديهم من تمويل ضخم وليتركوا لنا قنواتنا لنكون من خلالها عقلنا العربي وديننا الحنيف.